mercredi 27 juin 2007

قالوا عن العربي باطما


الغيوانــيإلى روح العربي باطما
الشعر والغناء . مسافة تمتد من اليد إلى الحنجرة . يكتب المغني قصيدته في نقطة دافئة من حنجرته. نقطة دقيقة بحبالها المتموجة من الراء إلى نصف استدارة للعين المنقوطة . الشعر تفريج عن الغمة الذاتية فرديا ثم جماعيا فيما بعد، والغناء تفريج عن الغمة جماعيا وجماعيا ولو بصيغة المفرد أحيانا .اصْدح أيها الشعر، تقول حنجرة المغني ، فأنا ” مشطون ” بهذا الإخراج. أريد أن أغني لأنني غيواني . إلقاء الشعر وقوفا هو نوع من الغناء. إلقاء الشعر جلوسا هو غناء ناقص . حركة الأرجل تمتد مع الأرجل . أيها الشعراء : أنشدوا شعركم واقفين . وقوف كوقوف حنجرة المغني الغيواني المشطون البال، الصادح ألما لذيذا ثاقبا الجسد وجبته معا، وموجههما صوب اللانهائي ، حيث يتربع الشيء واللاشيءالكونَ وصداه . تنتهي كلمات الشاعر /المغني في لحظات ولا ينتهي صداها ، يتبعك في كل وقت وحين، وحين يشطنك تناديه :يَا شاطَنِّي وُيَا شَاغَلْ بَالِييَا شَاطَنِّي وُعْيِيتْ نْدَارِي.ما الذي يشطن الشاعر/المغني، حامل همومه وهموم الآخرين على كتفين نصف مخبأتين ببعض شعر رطب ؟ أنت شاطني وأنت شاغل بالي وأنا أداري، وقد تعبت وأنا أداري . يشطن الشاعرَ شعرهُ، همُّه، آتِيه، هذا الصغير الكبير .يقول العربي باطما في آخر الجزء الأول من سيرته الذاتية “الرحيل” :سَرَّجْ عْذَابـِي حْجَـرْ الْجَلْمــُودْ..وُرْكَبْتْ لَثْـلُوجْ فْعَرْقِي وُمَا نَبْغِيهــاالذَّنْبْ دَارْنِـي كِيـفْ الْقَنْـفُـــودْكَاحَـزْ فٍي الأَرْضْ، وُبَاغِي يَخْلِيهَـاعَشْـتْ حْيَـاتِي فِي بَـابْ مَسْـدُودْبِيَّنْ لِي اُبْوَابَكْ يَا الغَافِرْ لا تَخْفِيــهاهو عارف بمجيئه إذن، ولذا يستغفر ربه، عارف بما سيأتي، وهو من أجل ذلك مشطون ومشغول البال.يجيء أو لا يجيء . بل يجيء ويجيء. وحين يحضر، فإنه يأتي في اللحظة البينية، أي بين الأوقات، والوقت ما أنت فيه يقول أهل الحال . وقتٌ قاسٍ، ولكنه ساخن وساخر يا شاطني .وتأخرتَ قليلا، ولا قيمة للحياة . هل لا قيمة للحياة ؟ تأخذ الحياة قيمتها من عدم إعطائها الأهمية اللاَّزمة ماديا ، وإعطائها كل ثقلها روحيا ومعنويا . ثم ما الذي سيحصل لو صرت أنا رمادا لك ؟ يا شاطني من تكون ؟ يا شاطني بملامحك غير المدركة، أيها المجهول الثاقب أجسادنا في السراء والضراء بلا هوادة .كُولْ لِـي عَفَاكْ أشْ يَجْرَى …إِلَى صَرْتْ رْمَادَكْ ؟قُل لي ما الذي سيحصل لو صرت رمادا لك يا شاطني ؟
لقد صرت رمادا لك، وحَصَلتْ أشياء كثيرة، وفي كل لحظة تحصل أشياء أخرى كثيرة. من تراب أتينا ومنه نعيش، وإليه نعود. نحن أوَّابُون إلى التراب. رمادا نصير يا شاطني ، هل سنصير رمادا ؟ التراب غير الرماد. الرماد يأتي بعد الحرق، وأنا احترقت، والتحول العادي هو تحول للتراب. وإذن فأنا غير عادي في هذا الزمن غير العادي . فلم أنت شاطني وشاغل بالي دائما ؟أثناء مرضه، يُورِد العربي باطما في الرحيل هذه العبارة : ” … إن دوائي أنا ، لا مرارة له ولا حلاوة …إنه دواء مسموم ، يتسرب عبر العروق وإلى القلب ، باحثا عن الجرثومة ..الجرثومة الخبيثة ، التي تنتقل في جسدي ..إن عقلي مشغول بها ..لقد غدوت أحب هاته الجرثومة ..فهل تعرفون بشرا يحب جرثومته القاتلة ؟إنه أنا …إنه طي ضلوعي القبيح ..ولقد بدأته من نهايته … ” (الرحيل ، ط : 3 ، دار توبقال ، ص : 55 )ورغم ذلك ورغم هذا التصريح الواضح لنا أن نتساءل : ما الذي كان يشغل المغني/الشاعر استعاريا ؟ وهو يصدح بأقوى ما يملك من قوة ؟ شَغْلٌ وشَغْلٌ ، والمَرْءُ وما شغله . وما يشغل المغني/الشاعرَ هو غناؤه الشعري. فحين كان يتم تسجيل شريط ” يَا مَنْ جَانَا ” كان العربي باطما يكتفي بالغناء والإنشاد الموالي الراقي ، لم يكن يقوَ على وضع يديه الهائلتين على طبلته الصغيرة وعوداها الطويلتين ، كان أخوه رشيد هو من يضبط الإيقاع الغيواني . لقد كان يكتفي بالحنجرة لأن الحنجرة لا تموت، فأية قوة يمتلك الشاعر /المغني؟ تلك قوة لا يتمتع بها إلا كبار الصوفية . يموت الجسد وتبقى حنجرته ، وأتمنى من قارئ هذا الكلام أن يواصل قراءة المكتوب هنا على صوت مغني الشعب العربي باطما في أغنية “يا من جانا ” وبالضبط في موالها المدوي ” يَا شاطَنِّي وُيَا شَاغَلْ بَالِي ” .وينادي المنادي :كُولْ لِـي عَفَاكْ أشْ يَجْرَى …إِلَى صَرْتْ رْمَادَكْ ؟أنا رماد الذات. رماد الوقت. رماد الاحتراق. رماد الألم . كل الفراشات تحترق من أجل الآخرين وأنا احترقت. وحنجرتي كالفينق من الرماد تنبعث في كل وقتٍ وحِينٍ يا شاطني . وذلك سر من أسرار الكتابة المغناة. سر مكنون .
*******في رحلة الألم الصعبة ، كان العربي باطما يصارع المرض والخيبة والمرارة ، ويتأمل أحوال الناس في سبعة أيام ، ممرضون وأطباء جزارون ، وآخرون يسوون بين الروح والدرهم ، بيع وشراء وألم في كل ناحية ، وكتابة قبل الانطفاء . اكْتُبْ وأسرع وسارع كتابتك ، وحتى لو لم تسارعها فإن صوت مغني الشعب الخالد في ” يا من جانا ” - وهي مرحلة البداية والنهاية في التجربة الغيوانية في ارتباطها بالسماع الصوفي في رأينا – سيفرج عن كل ظلمته . سيبوح بوحا قاسيا . إن صوته المدوي والمنفرد والمتفرد كافٍ ليجعل الحياة تستمر بعد سبعة أيام، والسبعة دلالة رمزية للخلق والإبداع . كتاب الألم هو كتاب مخيف (الكثير من الناس لا يستطيعون كقراءته) وكأنه أسطورة الليالي في ألف ليلة وليلة التي تقول أن من أتم قراءة ألف ليلة وليلة فسيموت، والكتاب لم ينته لأن قارئه موجود باستمرار، كما أن صوت العربي باطما لا ينتهي لأن سامعه ومردده وناسخه موجود وسيبقى باستمرار ، ما دامت الحاجة الداخلية ماسة إليه . حاجة كحاجتنا للسر .******في ساحة جامع الفناء الشهيرة بمراكش، لا تكاد تمر على جهة إلا والصوت الغيواني يتردد في كل مكان . أكثر” الحلاقي ” امتلاء هي تلك التي تتغنى بأغاني “ناس الغيوان ” أغاني الجسد بأصوات حية من داخل الرحم الشعبي كما سماها الشاعر حسن نجمي في مقدمته المتميزة والمركزة لديوان ناس الغيوان “كلام الغيوان ” منشورات اتحاد كتاب المغرب ط1 ” فقد غنت مجموعة ناس الغيوان للأمل والألم ، للمحبة والسلام ، للجسد ونسيج الروح ، للإنسان في كل انتصاراته وانكساراته ” ص : 12 ) .في جامع الفناء هناك ” حلقة ” معروفة باسم “حلقة الباطما ” ، لأن بها مجموعة غنائية لا تنشد إلا الأغاني الغيوانية مبتدئة ب “سْبْحانْ الله صِيفْنا وُلَّى شَتْوَا ” ومركزة على جذبة ” غِيرْ خُوذُونِي ” . بهذه الحلقة يجلس شخص يسميه الكل “الباطما ” رجل في منتصف الشباب، مراكشيٌّ له نفس تسريحة شعر العربي باطما ، بل يرتدي نفس الملابس، وله نفس الشارب. غيواني مهووس بالعربي باطما “الأصل” لحد التمازج ، يضع أمامه صورة كبيرة للمرحوم الباطما، وصورة أخرى مركبة للباطما ولهذا الغيواني الجديد بطبلته . يغني الباطما الجديد أغاني العربي ، و أعتقد أن له أمثله كثيرة . باطمات يتناسخون دون حاجة إلى علم التناسخ .الباطما ،آ الباطما ، الكل ينادي على الباطما . مراكشي يدير حلقته مع المجموعة بذكاء، بحيث تخصص المجموعةُ عدة َكراسي للإناث اللواتي تحضرن لإشفاء غليل الذات المجذوبة . اسمه الحقيقي حميد، حين تحدث معه عن أصل الفكرة، فكرة تقمص شخصية الباطما، أجابني بأنه كان مهووسا بغنة وصوت العربي وأنه حين سمع بنبإ وفاته ، وقد كان يشتغل مساعدا لتاجر في مواد الصناعة التقليدية بمراكش، وكأنه أصيب بِمَسٍّ ومن تم أسس مع مجموعة من أصدقائه مجموعة خاصة بإعادة أغاني ناس الغيوان ليقدموها في حلاقي جامع الفنا. هو مهووس بالباطما إلى حد الفناء .هاتان صورتان متداخلتان تحملان أكثر من دلالة . صوت صارخ في البرية ، في أطراف جامع الفناء . وصوت أخر يستدعى الأصل : العربي باطما . لا فناء إلا في الفناء نفسه فاصدح لا نهاية لامتداد صوتك المغربي القوي .*********
امتداد الصوت الغيواني في مقدمة ” يا من جانا ” هو امتداد لا يتكرر مرتين، تماما كولادة القصيدة التي لا تتكرر مرتين . اكتواء . احتراق . وحفر في الذات . في مسام الذات . وتنبؤ بالنهاية ، بل تأكد من النهاية البداية المصاحبة لصوت العود النازل على الجسد السامع بردا وسلاما في نار الوجد ، والسامع من السماع والسماع صفة صوفية عالية ، بالشطح تتزين ، بالجذبة ترفع الحال لمقام المحال .راء العربي باطما في ” يا من جانا ” هي راء الرائي الثاقبة السمع الواجد الشاطح الثمل والمسكر بهذا الصوت الذي يعول عليه إذ أن ” كل سكر من غير شرب لا يعول عليه ” كما يقول الشيخ الأكبر، وشرب ” يا من جانا ” هو صوت العربي ومجموعة ناس الغيوان . صوت هائل .وأنت يا شاطني، تعاود الكرّة تلو الكرّة ، لا تنتهي إلا لتبتدئ ،. جمرك يشتعل من جديد. جمرك في القلب ، وأنت بين الوقتين أتيت يا شاطني ويا شاغل بالي .تبريد الجمر يتم بالقصيدة زجلا أو فصحى أو بأية لغة ، أو بأية وسيلة ، لا يهم المهم هو مفعول الوجد لا الوجد.الصوت الواقف سيغمرك حتى الأظافر العليا والسفلى ، صوت المعني/الشاعر هو صوت يسير في عدة اتجاهات ، في النفس والوقت وأصدائهما، في حفر اللغة ونغماتها على الجسد النحيف الهزيل المسكين ولكن القوي بصدى الصوت على مر التاريخ .أصوات الشعراء هي صوت آخر من أصوات البوح ، منكسرة غالبا ، مُوشحة بكبرياء صغيرة ، بوهم صغير ، وبمتعة تحققها للآخرين . مُـتْعة كبيرة. والصوت جزء من سر مكنون يكتب بحبال حقيقية ، بأوتار لا آلة لها ، ما لَها سوى حنجرة تلاطم ريقا ناشفا بصلوات لا وقت لها . ألم يصرخ العربي باطما في نهاية ألمه العميق قائلا : ” يا رب . كلمة تسمع في كل مرة ، نابعة من أعماق الألم ، بخشوع، ورجاء . يا رب….” ( الألم ، دار توبقال ، ط، 4 ، 2004 ) .الصوت الملاطم للريح ، النافخ في النفس، نفسُنا، بحروف لها التوهج ولنا الاحتراق بلوعة الفراق ولكن عزاءنا هو بترداد صوت الريح في الحال والمحال ، في الشطح الموصل لمقام العارفين . صوت لم يختنق في التاريخ رغم انتهائه ماديا . صوت عبر عنه العربي باطما في كتاب “الألم” المخيف الذي انتهى يدويا أو بالإملاء -لا ندري- في 7 /1/ 1997 وبعد شهر من هذا التاريخ تماما سيوارى جثمان العربي باطما التراب في 7/2/1997.يقول في الصفحة 30: ” في إحدى حفلات ناس الغيوان …كنت أغني موال “من المحال” :مَنْ الْمُحَالْ أَقَلْبِي بَاشْ تنْساهْمَنْ الْمُحَالْ أَقَلْبِي وانْتَ تَهْواهْيَاكْ أَقَلْبِي جِيتْ اغْرِيبْيَاكْ أَقَلْبِي مَنْ بْلادْ بْعِيدَةْيَاكْ أَقلْبِي هَجَرْتْ لُوطانْيَاكْ أَقلْبي وبْلادي لْعْزيزَةْالريحْ والسْحابْ ارْشاتْالغيم ظلّم عْلِيّالْحْبابْ كَاعْ كْفَاتْبْقِيتْ فْريدْ والعَمْدَةْ عليَّاوفي كلمتي الريح الريح والسحاب ..كان عَليَّ – بالنسبة للحن – أن أطيل فيها ، وأن لا أتنفس إلا بعد الجملة الموسيقية .. فأحسست برئتي يلتقي باطنها أو تجويفها . وشعرت كأن تيارا كهربائيا مر بجسمي. كما أنه عندما أردت إرجاع التنفس لم أقدر ، وبعد جهد جهيد تنفست.. لما أنهينا العرض تحسست أنفي فوجدت شيئا من الدم عالقا بالشعيرات الموجودة بداخله. ” ألمٌ نتيجة صراع النفس مع الريح من أجل إيصال الصوت كاملا . يواصل العربي باطما في نقس الصفحة ” أه .. إن صدري الآن يعاني ، لأني مصاب بقلة التنفس . ولقد عشت طيلة حياتي أخاف الاختناق ، وأتذكر بأني كتبت نصا عن الاختناق ونشرته في جريدة ” العلم ” . نعم . عشت طيلة حياتي لمَّا أرى السمكة ، وقد أخرجها الصياد من البحر، فتموت مختنقة أقول في نفسي بأنها ميتة صعبة …. ما أصعب الموت بالاختناق . ” ويختم الشاعر / المغني هذا المقطع المؤلم بهذا الرجاء الدعاء : ” رب خذني بما شئت. لكن رحماك ، أبعد عني الاختناق ” ( الألم ص : 30 ) .
ولكن الصوت باقٍ رغم ذلك، ويتقوى ويتناسل رغم الاختناق الظاهر . يتقوى بسر لا يدركه سوى عشاق القول الفاعل في التاريخ فِعْلاً قد لا تستطيع السياسة تحقيقه. للذات تأوهاتها الجميلة ، لها صوتها النازل قطراتٍ. من تأملها يأتي الخشوع الروحي المسمع ليلا ونهارا في كل الأوقات. في ما بين الوقتين ، وتلك بعض أسرار هذا الكلام الجميل :
يَا شاطَنِّي وُيَا شَاغَلْ بَالِييَا شَاطَنِّي وُعْيِيتْ نْدَارِيجِيتِينِي بِينْ لُوقَاتْجِيتِينِي وُالْوَقْتْ احْمَاتْجِيتِي مْعَطَّلْ اللَّحْظَاتْ … وَاُشْنُو هِيَ لَحْيَاةْ يَا شَاطْنِّيكُولْ لِـي عَفَاكْ أشْ يَجْرَى …إِلَى صَرْتْ رْمَادَكْ ؟رَاكْ جِيتِينِي ثَانِي تَشْعَلْ نَارْ …مَا صَدَّقْتْ طْفَاتْ يَا شَاطَنِّيجيتِي تَشْعَلْ جَمْرَةْ … كَانَتْ فَ القَلْبْ وُبَرْدَاتْ…جِيتِي ثَانِي بِينْ لُوقَاتْ .يَـــاشَاطّنِّـــي وُيَـَــا شَــاغَــلْ بَــالِـــي.
هل احتنق الصوت ؟ هل انتهى الموال ؟ نتذكر هذه الأسئلة في الذكرى التاسعة لوفاة المرحوم العربي باطما ، الغيواني الذي نعتقد أنه ابتدأ لكونه يتناسل فينا باستمرار. أليس موت الشاعر هي حياته ؟.
أحمد العمراوي

Aucun commentaire:

Archives du blog